كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء.. وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة!! والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم:
{إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء}؟..
وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم؟!
أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة، وتعريضهم إياهم للعذاب؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال!
ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:
{قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}..
وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:
{لو هدانا الله لهديناكم}..
فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتد ونضللكم. ولو هدانا الله لقدناكم إلى الهدى معنا، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله. فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حساباً لقدرة القاهر الجبار.
وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله.. والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه: {إن الله لا يأمر بالفحشاء}.. ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي، فيعلنونهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر. فقد حق العذاب، ولا راد له من صبر أو جزع، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى؛ وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله. لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:
{سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}!
لقد قضي الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار.. وهنا نرى على المسرح عجباً. نرى الشيطان.. هاتف الغواية، وحادي الغواة.. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان، او مسوح الشيطان! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب:
{وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بِمُصْرِخِكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم}.
الله! الله! أما إن الشيطان حقاً لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار...
إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عن استماع الدعوة.. هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة، حيث لا يملكون أن يردوها عليه وقد قضي الأمر هو الذي يقول الآن، وبعد فوات الأوان:
{إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم}!
ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له، وليس له عليهم من سلطان، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم، فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله:
{وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}!
ثم يؤنبهم، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم. يؤنبهم على أن أطاعوه!:
{فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}!
ثم يخلي بهم، وينفض يده منهم، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم، ووسوس لهم أن لا غالب لهم؛ فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:
{ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ}..
وما بيننا من صلة ولا ولاء!
ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك:
{إني كفرت بما اشركتمون من قبل}!
ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:
{إن الظالمين لهم عذاب أليم}!
فيا للشيطان! ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه؛ ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه!
وقبل أن يسدل الستار نبصر على الضفة الأخرى بتلك الأمة المؤمنة، الأمة الفائزة، الأمة الناجية:
{وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام}.
ويسدل الستار..
فيا له من مشهد! ويا لها من خاتمة لقصة الدعوة والدعاة مع المكذبين والطغاة!
وفي ظل هذه القصة بفصولها جميعاً. في الدنيا حيث وقفت أمة الرسل في مواجهة الجاهلية الظالمة:
{واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ}..
وفي الآخرة حيث شاهدنا ذلك المشهد الفريد: مشهد الذين استكبروا والضعفاء والشيطان، مع ذلك الحوار العجيب..
في ظل تلك القصة ومصائر الأمة الطيبة، والفرقة الخبيثة، يضرب الله مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، لتصوير سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة؛ فتكون خاتمة كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار:
{ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}..
{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}..
إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.. والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.. هو مشهد مأخوذ من جو السياق، ومن قصة النبيين والمكذبين، ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص. وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح، وهي تؤتي أكلها كل فترة، أكلاً جنياً طيباً.. نبياً من الأنبياء.. يثمر إيماناً وخيراً وحيوية..
ولكن المثل بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة أبعد من هذا آفاقاً، وأعرض مساحة، وأعمق حقيقة.
إن الكلمة الطيبة كلمة الحق لكالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل؛ ولا تقوى عليها معاول الطغيان وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل وإن خيل إلى البعض أحياناً أن الشر يزحمها في الفضاء مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آناً بعد آن..
وإن الكلمة الخبيثة كلمة الباطل لكالشجرة الخبيثة؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك؛ ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى.
ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض.. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء.
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع. إنما هو الواقع في الحياة، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان.
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق.. والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به فقلما يوجد الشر خالص وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال.
إن الخير بخير! وإن الشر بشر!
{ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}..
فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض، ولكن الناس كثيراً ما ينسونه في زحمة الحياة.
وفي ظل الشجرة الثابتة، التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه، فيرسمها: أصلها ثابت مستقر في الأرض، وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر، قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات.
في ظل الشجرة الثابتة مثلاً للكلمة الطيبة: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}..
وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات: {ويضل الله الظالمين}.. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق!
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر، الثابتة في الفطر، المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة. ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول؛ وبوعده للحق بالنصر في الدنيا، والفوز في الآخرة.. وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة، لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل، ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب.
ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم (والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب) وبعدهم عن النور الهادي، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله.. يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود.
{ويفعل الله ما يشاء}..
بإرادته المطلقة، التي تختار الناموس، فلا تتقيد به ولكنها ترضاه. حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة، ولا يقوم في طريقها عائق؛ والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء.
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات. وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة، تحتوي دائماً على الحقيقة الكبرى.. حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل، وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار.
والآن نقف وقفات قصيرة أمام الحقائق البارزة التي تعرضها قصة الرسل مع الجاهلية. وهي الحقائق التي أشرنا إليها إشارات سريعة في أثناء استعراض السياق القرآني، ونرى انها تحتاج إلى وقفات أخرى أمامها مسقلة:
* إننا نقف من هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير.. إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول، يقوده رسل الله الكرام، داعين بحقيقة واحدة، جاهرين بدعوة واحدة، سائرين على منهج واحد.. كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة، وربوبية واحدة، وكلهم لا يدعو مع الله أحداً، ولا يتوكل على أحد غيره، ولا يلجأ إلى ملجأ سواه، ولا يعرف له سنداً إلا إياه.
وأمر الاعتقاد في الله الواحد إذن ليس كما يزعم علماء الدين المقارن أنه تطور وترقى من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد؛ ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة الله الواحد؛ وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري، وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد..
إن الاعتقاد في الله الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ؛ ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات؛ ولا في دين واحد من الأديان السماوية. كما يقص علينا الحكيم الخبير.
ولو قال أولئك العلماء: إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول؛ وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حيناً بعد حين. حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولاً لدى جماهير الناس مما كانت، بفعل توالي رسالات التوحيد؛ وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير.. لو قال أولئك العلماء قولاً كهذا لساغ.. ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوروبا حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون! ومن الرغبة الخفية الواعية أو غير الواعية في تحطيم المنهج الديني في التفكير؛ وإثبات أن الدين لم يكن قط وحياً من عند الله؛ إنما كان اجتهاداً من البشر، ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء.. ومن ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن؛ ويسمى مع ذلك علماً ينخدع به الكثيرون!
وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا العلم فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه، ويحترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة؛ وأن يدلي بقول يصطدم اصطداماً مباشراً مع مقررات دينه، ومع منهجه الواضح في هذا الشان الخطير.
* هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة إذن بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة. وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم، وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة، مواجهة واحدة كما يعرضها السياق القرآني مغضياً عن الزمان والمكان، مبرزاً للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل!
إنها حقيقة تستوقف النظر حقاً!.. إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان.. إن الجاهلية ليست فترة تاريخية؛ ولكنها وضع واعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات..
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد؛ ومن تأليه غير الله. أو من ربوبية غير الله وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية فسواء كان الاعتقاد قائماً على تعدد الآلهة؛ أو كان قائماً على توحيد الإله مع تعدد الأرباب أي المتسلطين فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى!
ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة، وإخلاص الدين لله أي إخلاص الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية، أي الحاكمية والسلطان ومن ثم تصطدم اصطداماً مباشراً بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية؛ وتصبح بذاتها خطراً على وجود الجاهلية. وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص، يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي؛ وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد، ومن ناحية القيادة، ومن ناحية الولاء.. الأمر الذي لابد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان..